لا شيء مثل الصور، تلك الخزينة الثمينة، وسادة الذاكرة، وذاكرة الأسفار الكثيرة، لولاها لغابت التفاصيل، وهربت التواريخ، وتوارت كثير من الشخصيات من المشاهد الحياتية، والذين كانوا حينها ملء العين، وأقرب لضلوع الصدر.
الصور وحدها سفر، وحين نقلب «الألبومات» القديمة، تفتر الشفاه عن بسمة أو تطير ضحكة أو تخرّ دمعة أو تخرج آهة حشوها وَقْدُ، هذه المرة نسافر في حكاية صورة قديمة اتخذت لنا نحن مجموعة من السياح من جهات العالم الأربع ذات نهار عند قلعة «هايدلبيرغ» الألمانية، الواقعة على نهر الـ«نيكر» وعلى سفوح جبل «كونيكيشتهال» أو كما يمكن أن نعرّبها من الألمانية «كرسي الملك» والذي استغرق بناؤها من عام (1400 – 1619)، ويوجد في قبوها أكبر برميل للنبيذ في العالم، يصل حجمه إلى 220 ألف لتر، وكانت طوال تاريخها مقر الملوك.
تبدو اليوم الصورة باهتة قليلاً، وتميل للبني الفاتح، بعكس ما تسلمناها ذاك اليوم حين حظي كل منا بنسخة منها مقابل «ثلاثة ماركات» ألمانية في حينها، وبالاتفاق بين الشركة السياحية، ومصور الساحة، والذي يدفع ضريبته بانتظام للبلدية، كان وقتها في الستين ويزيد، كأي ألماني بشنب مصفرّ من التبغ ولهيب ما يشربون، ونظارة سميكة تعكس جهاده، وتعبه في ميادين ما كان يريد أن يخوضها- على الأقل لوحده- كان يستعمل كاميرا ألمانية بالتأكيد «هاسلبلاد» من الكاميرات التي تلتزم بصداقة العمر، ولا تخيب، وفيلماً من المقاس العريض «135 ملم» من التي تعتمد عليها تحت أي ظروف ممكنة وغير متوقعة، حتى ولو خضع لجهاز كشف من التي كان يصنعها الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة.
جلوساً في تلك الصورة الجماعية؛ من الجهة اليمين ياباني وزوجته، وأبوها الذي كان يعتمد على كرسي متحرك، وأجزم أنهما ما زالا يهرمان مع بعضهما، بعدما ودعها أبوها بعد تلك الرحلة بسنوات أو دخل دار العجزة باختياره، تاركاً لهما متنفساً في البيت العائلي الذي بالكاد يفي بالحد، زوجان من أميركا اللاتينية، يبدو الرجل متزوجاً متأخراً بفتاة تصغره، ويبدو أنه زواجه الثاني بعد فشل واضح في الزواج الذي كان معتقداً أنه عن حب، ثمة خيانة كانت مخفية في المسألة، من أرباب مصنع الأقمشة الذي كان يتودد للزوجين الجديدين العاملين عنده، بدليل أنه ما زال يتذكر بعمق في وحدته، واستعلائه على الزوجة الجديدة، وتعامله معها بفحولة كاذبة، وحقيقة لا أعتقد إنْ كانا ما يزالان معاً حتى الآن، فلا الفتاة كانت مقتنعة كثيراً، ولا هو كان ينشد بيتاً عائلياً.
بعدهما مباشرة باكستاني شاب مع زوجته الجميلة، المتحنية، والوحيدة التي يمكنك أن تعدها أنثى، بخجلها الحريمي، وملامحها الواضحة، كانت مرتبكة بأنوثتها المفرطة، وتستدعي الخجل من بعيد، حيث كان يمكنك أن تحسب شعرات حاجبها الناعم أو تلك الشعيرات التي تسكن بطفولة خلف الأذن مباشرة، كانا في شهر العسل على ما يبدو، ملابس الفتى تدل أنه سليل عائلة إقطاعية، وأبوه لا يبخل عليه بشيء، خاصة بعد أن أظهر تفوقاً ملحوظاً في المدرسة، خصوصاً في مادة الرياضيات، العروسة الآن، وبعد هذه المدّة، بالتأكيد تبدو ممتلئة أكثر، بعد ولادات متعاقبة، ولا تطيق أن تخرج من بيتها، ونسيت مثل تلك الرحلات الأولى، وهو غالباً ما يمكث في لندن مطولاً في الآونة الأخيرة بعد ما استغل محاسباً قانونياً لشركات عدة مقرها كراتشي، وفلوسها في بنما، وهو يحاسب من لندن.
وقوفاً أميركي مع زوجته الهرمة مبكراً، نتيجة تعاطي هرمونات في بداية حياتها، وتعاني مشكلات نسائية لا تنتهي، مع عدم اكتراث واضح منه لتلك المسألة، فهو يمزح ويضحك، ويداعب النساء رفيقات الرحلة، حتى الباكستاني تساهل، وهو يمتدح جمال زوجته التي لم تفهم ما يعنيه ساعتها، هناك عجوز سريلانكي يوحي لك أنه متقاعد من وظيفة كبرى حكومية، يشبه النفر من العلماء في القرون الماضية الذين يعتمدون على الورق المطوي والقراطيس والدفاتر العتيقة، سحنته الضاربة في سواد أشبه بطمي الطين الأول، آدمة لون الغجر، كان أشبه بمعلم يعرف تفاصيل تاريخية مذهلة عن المدينة والحياة، أحرج كثيراً وقتها مرشدة الفوج السياحي، تلك الشابة الألمانية، كفرس متينة العظم، وغداً.. نكمل.